فصل: تفسير الآيات (154- 155):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (149- 153):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)}
لما أمر الله سبحانه بالاقتداء بمن تقدّم من أنصار الأنبياء حذر عن طاعة الكفار، وهم مشركو العرب؛ وقيل اليهود والنصارى. وقيل: المنافقون في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى دين آبائكم. وقوله: {يَرُدُّوكُمْ على أعقابكم} أي يخرجوكم من دين الإسلام إلى الكفر {فَتَنقَلِبُواْ خاسرين} أي ترجعوا مغبونين. وقوله: {بَلِ الله مولاكم} إضراب عن مفهوم الجملة الأولى: أي إن تطيعوا الكافرين يخذلوكم ولا ينصروكم بل الله ناصركم لا غيره؛ وقريء: {بل الله} بالنصب على تقدير بل أطيعوا الله.
قوله: {سَنُلْقِى} قرأ السَّخْتِيَانّي بالياء التحتية، وقرأ الباقون بالنون. وقرأ ابن عامر، والكسائي: {الرعب} بضم العين. وقرأ الباقون بالسكون، وهما لغتان، يقال: رَعَبْتُه رُعباً، ورُعُباً، فهو مرعُوب، ويجوز أن يكون مصدراً، والرعب بالضم: الاسم، وأصله المَلء، يقال: سْيل راعب، أي: يملأ الوادي، ورعبت الحوض: ملأته، فالمعنى: سنملأ قلوب الكافرين رعباً، أي: خوفاً، وفزعاً، والإلقاء يستعمل حقيقة في الأجسام، ومجازاً في غيرها، كهذه الآية، وذلك أن المشركين بعد وقعة أحد ندموا أن لا يكونوا استأصلوا المسلمين، وقالوا: بئسما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم؛ ارجعوا، فاستأصلوهم، فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا، عما هموا به: {بِمَا أَشْرَكُواْ بالله} متعلق بقوله: {سَنُلْقِى} و{ما} مصدرية، أي: بسبب إشراكهم {مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا} أي: ما لم ينزل الله بجعله شريكاً له حجة، وبياناً، وبرهاناً، والنفي يتوجه إلى القيد، والمقيد، أي: لا حجة، ولا إنزال، والمعنى: أن الإشراك بالله لم يثبت في شيء من الملل. والمثوى: المكان الذي يقام فيه، يقال ثوى يثوي ثواءً.
قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} نزلت لما قال بعض المسلمين من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله النصر، وذلك أنه كان الظفر لهم في الابتداء، حتى قتلوا صاحب لواء المشركين، وتسعة نفر بعده؛ فلما اشتغلوا بالغنيمة، وترك الرماة مركزهم طلباً للغنيمة كان ذلك سبب الهزيمة. والحسّ: الاستئصال بالقتل، قاله أبو عبيد. يقال: جراد محسوس: إذا قتله البرد، وسنة حسوس: أي: جدبة تأكل كل شيء. قيل: وأصله من الحسّ الذي هو الإدراك بالحاسة، فمعنى حسه: أذهب حسه بالقتل، وتحسونهم: تقتلونهم، وتستأصلونهم، قال الشاعر:
حسسناهم بالسيف حسَّاً فأصْبَحت ** بِقيَّتهُم قد شُرِّدوا وتَبَدَّدوا

وقال جرير:
تَحُسَّهُم السّيوفُ كما تسامىَ ** حَرِيقُ النَّارِ في الأجِمِ الحَصِيدِ

{بِإِذْنِهِ} أي: بعلمه، أو بقضائه {حتى إِذَا فَشِلْتُمْ} أي: جبنتم وضعفتم، قيل: جواب حتى محذوف تقديره امتحنتم، وقال الفراء: جواب حتى قوله: {وتنازعتم} والواو مقحمة زائدة، كقوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}
[الصافات: 103] وقال أبو علي: يجوز أن يكون الجواب صرفكم عنهم، وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي: حتى إذا تنازعتم، وعصيتم فشلتم. وقيل: إن الجواب عصيتم، والواو مقحمة.
وقد جوّز الأخفش مثله في قوله تعالى: {حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 118]، وقيل: {حتى} بمعنى (إلى)، وحينئذ لا جواب لها، والتنازع المذكور هو ما وقع من الرماة حين قال بعضهم: نلحق الغنائم، وقال بعضهم: نثبت في مكاننا، كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعنى قوله: {مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} ما وقع لهم من النصر في الابتداء في يوم أحد، كما تقدّم: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} يعني: الغنيمة {وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الأخرة} أي: الأجر بالبقاء في مراكزهم امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي: ردّكم الله عنهم بالانهزام بعد أن استوليتم عليهم ليمتحنكم {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} لما علم من ندمكم، فلم يستأصلكم بعد المعصية، والمخالفة، والخطاب لجميع المنهزمين، وقيل: للرماة فقط.
قوله: {إِذْ تُصْعِدُونَ} متعلق بقوله: {صَرَفَكُمْ} أو بقوله: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} أو بقوله: {لِيَبْتَلِيَكُمْ} وقرأه الجمهور بضمّ التاء، وكسر العين، وقرأ أبو رجاء العطاردي، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، وقتادة بفتح التاء، والعين. وقرأ ابن محيصن، وقنبل: {يصعدون} بالتحتية. قال أبو حاتم: أصعدت: إذا مضيت حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت في جبل، فالإصعاد: السير في مستوى الأرض، وبطون الأودية، والصعود: الارتفاع على الجبال، والسطوح، والسلالم، والدرج، فيحتمل أن يكون صعودهم في الجبل بعد إصعادهم في الوادي، فيصح المعنى على القراءتين.
وقال القتيبي: أصعد: إذا أبعد في الذهاب، وأمعن فيه، ومنه قول الشاعر:
ألا أيها ذا السَائِلي أيْنَ أصْعدت ** فِإنَ لَها من بَطِن يَثرِبَ مَوْعِدا

وقال الفراء: الإصعاد: الابتداء في السفر، والانحدار: الرجوع منه، يقال: أصعدنا من بغداد إلى مكة، وإلى خراسان، وأشباه ذلك: إذا خرجنا إليها، وأخذنا في السفر، وانحدرنا: إذا رجعنا.
وقال المفضل: صعد، وأصعد بمعنى واحد. ومعنى: {تَلْوُونَ} تعرجون، وتقيمون، أي: لا يلتفت بعضكم إلى بعض هرباً، فإن المعرج إلى الشيء يلوي إليه عنقه أو عنق دابته: {على أَحَدٍ} أي: على أحد ممن معكم، وقيل: على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرأ الحسن: {تلون} بواو واحدة، وقرأ عاصم في رواية عنه بضم التاء، وهي لغة. قوله: {والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ} أي: في الطائفة المتأخرة منكم، يقال جاء فلان في آخر الناس، وآخرة الناس، وأخرى الناس، وأخريات الناس. وكان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «أي عباد الله ارجعوا» قوله: {فأثابكم} عطف على صرفكم، أي: فجازاكم الله غماً حين صرفكم عنه بسبب غمّ أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيانكم، أو غماً موصولاً بغمّ بسبب ذلك الإرجاف، والجرح، والقتل، وظفر المشركين، والغمّ في الأصل: التغطية، غميت الشيء: غطيته، ويوم غمّ، وليلة غمة: إذا كانا مظلمين، ومنه: غمّ الهلال، وقيل: الغمّ الأول: الهزيمة، والثاني: الإشراف من أبي سفيان، وخالد بن الوليد عليهم في الجبل.
قوله: {لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ} اللام متعلقة بقوله: {فأثابكم} أي: هذا الغمّ بعد الغمّ لكيلا تحزنوا على ما فات من الغنيمة، ولا ما أصابكم من الهزيمة، تمريناً لكم على المصائب، وتدريباً لاحتمال الشدائد.
وقال المفضل: معنى: {لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ} لكي تحزنوا، و{لا} زائدة كقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] أي: أن تسجد، وقوله: {لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29] أي: ليعلم.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج في قوله: {ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ} قال: لا تنتصحوا اليهود، والنصارى على دينكم، ولا تصدقوهم بشيء في دينكم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ يقول: إن تطيعوا أبا سفيان بن حرب يردّكم كفاراً.
وأخرج ابن جرير، عنه في قوله: {سَنُلْقِى في قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} نحو ما قدّمناه في سبب نزول الآية.
وأخرج البيهقي في الدلائل عن عروة في قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} قال: كان الله وعدهم على الصبر، والتقوى أن يمدّهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين، وكان قد فعل، فلما عصوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركوا مصافهم، وتركت الرماة عهد الرسول إليهم أن لا يبرحوا منازلهم، وأرادوا الدنيا رفع عنهم مدد الملائكة. وقصة أحد مستوفاة في السير، والتواريخ، فلا حاجة إلى إطالة الشرح هنا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن عبد الرحمن بن عوف في قوله: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} قال: الحسّ: القتل.
وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه. قال: الفشل: الجبن.
وأخرج ابن المنذر عن البراء بن عازب في قوله: {مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} قال: الغنائم، وهزيمة القوم.
وأخرج ابن جرير عن الحسن في قوله: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} قال: يقول الله: قد عفوت عنكم أن لا أكون استأصلتكم.
وأخرج أيضاً عن ابن جرير نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس: {إِذْ تُصْعِدُونَ} قال: أصعدوا في أحُد فراراً، والرسول يدعوهم في أخراهم: «إليّ عباد الله ارجعوا إليّ عباد الله ارجعوا».
وأخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف: {فأثابكم غَمّاً بِغَمّ} قال: الغمّ الأوّل بسبب الهزيمة، والثاني: حين قيل: قتل محمد، وكان ذلك عندهم أعظم من الهزيمة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {غَمّاً بِغَمّ} قال: فرّة بعد الفرّة الأولى حين سمعوا الصوت أن محمداً قد قتل.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم قال: الغم الأوّل: الجراح والقتل، والغم الآخر: حين سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل.
وأخرج ابن جرير، عن الربيع مثله.

.تفسير الآيات (154- 155):

{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)}
الأمنة، والأمن سواء، وقيل: الأمنة إنما تكون مع أسباب الخوف، والأمن مع عدمه، وهي منصوبة بأنزل. و{نعاساً} بدل منها، أو عطف بيان، أو مفعول له، وأما ما قيل: من أن {أمنة} حال من {نعاساً} مقدّمة عليه، أو حال من المخاطبين، أو مفعول له، فبعيد. وقرأ ابن محيصن: {أمنه} بسكون الميم. قوله: {يغشى} قريء بالتحتية على أن الضمير للنعاس، وبالفوقية على أن الضمير لأمنة، والطائفة: تطلق على الواحد، والجماعة، والطائفة الأولى: هم المؤمنون الذين خرجوا للقتال طلباً للأجر، والطائفة الأخرى هم: مُعَتِّب بن قشير، وأصحابه، وكانوا خرجوا طمعاً في الغنيمة، وجعلوا يناشدون على الحضور، ويقولون الأقاويل. ومعنى: {أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} حملتهم على الهمّ، أهمني الأمر: أقلقني، والواو في قوله: {وَطَائِفَةٌ} للحال، وجاز الابتداء بالنكرة لاعتمادها على واو الحال، وقيل: إن معنى {أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} صارت همهم لا همّ لهم غيرها. {يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق} هذه الجملة في محل نصب على الحال، أي: يظنون بالله غير الحق الذي يجب أن يظن به، وظنّ الجاهلية بدل منه. وهو: الظنّ المختص بملة الجاهلية، أو ظن أهل الجاهلية، وهو ظنهم أن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم باطل، وأنه لا ينصر، ولا يتمّ ما دعا إليه من دين الحق.
وقوله: {يَقُولُونَ} بدل من {يظنون} أي: يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَئ} أي: هل لنا من أمر الله نصيب، وهذا الاستفهام معناه الجحد، أي: ما لنا شيء من الأمر. وهو النصر والاستظهار على العدوّ، وقيل: هو الخروج، أي: إنما خرجنا مكرهين، فردّ الله سبحانه ذلك عليهم بقوله: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} وليس لكم، ولا لعدوّكم منه شيء، فالنصر بيده، والظفر منه. وقوله: {يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم} أي: يضمرون في أنفسهم النفاق، ولا يبدون لك ذلك، بل يسألونك سؤال المسترشدين. وقوله: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئ مَّا قُتِلْنَا هاهنا} استئناف، كأنه قيل: ما هو الأمر الذي يخفون في أنفسهم؟ فقيل: يقولون فيما بينهم، أو في أنفسهم {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَئ مَّا قُتِلْنَا هاهنا} أي: ما قتل من قتل منا في هذه المعركة، فردّ الله سبحانه ذلك عليهم بقوله: {قُل لَّوْ كُنتُمْ في بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ} أي: لو كنتم قاعدين في بيوتكم لم يكن بدّ من خروج من كتب عليه القتل إلى هذه المصارع التي صرعوا فيها، فإن قضاء الله لا يردّ.
وقوله: {وَلِيَبْتَلِىَ الله مَا في صُدُورِكُمْ} علة لفعل مقدر قبلها معطوفة على علل له أخرى مطوية للإيذان بكثرتها، كأنه قيل: فعل ما فعل لمصالح جمة {وَلِيَبْتَلِىَ} إلخ، وقيل: إنه معطوف على علة مطوية لبرز، والمعنى: ليمتحن ما في صدوركم من الإخلاص، وليمحص ما في قلوبكم من وساوس الشيطان.
قوله: {إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان} أي: انهزموا يوم أحد، وقيل: المعنى: إن الذين تولوا المشركين يوم أحد: {إِنَّمَا استزلهم الشيطان} استدعى زللهم بسبب بعض ما كسبوا من الذنوب التي منها مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ} لتوبتهم، واعتذارهم.
وقد أخرج ابن جرير، عن ابن عباس في الآية قال: أمنهم الله يومئذ بنعاس غشاهم، وإنما ينعس من يأمن.
وقد ثبت في صحيح البخاري، وغيره أن أبا طلحة قال: غشينا، ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه، فذلك قوله: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً} الآية.
وأخرج الترمذي وصححه، وابن جرير، وأبو الشيخ، والبيهقي في الدلائل، عن الزبير بن العوّام؛ قال: رفعت رأسي يوم أحد، فجعلت انظر، وما منهم من أحد إلا وهو يميل تحت جحفته من النعاس، وتلا هذه الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن جريج قال: إن المنافقين قالوا لعبد الله بن أبيّ، وكان سيد المنافقين: قتل اليوم بنو الخزرج، فقال: وهل لنا من الأمر شيء؟ أما، والله لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ.
وأخرج ابن جرير، عن قتادة والربيع في قوله: {ظَنَّ الجاهلية} قال: ظنّ أهل الشرك.
وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: معتب هو الذي قال يوم أحد: لو كان لنا من الأمر شيء.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن أن الذي قال ذلك عبد الله بن أبيّ.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عبد الرحمن بن عوف في قوله: {إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان} قال: هم ثلاثة: واحد من المهاجرين، واثنان من الأنصار.
وأخرج ابن منده، وابن عساكر، عن ابن عباس في الآية قال: نزلت في عثمان ورافع بن المعلى، وخارجة بن زيد.
وقد روى في تعيين: {من} في الآية روايات كثيرة.